بيوم من الأيام، وعيت ميرا من الصبح بكير، ووعت البابا وقالت:
"شو يلّا قوم! وعدتني مبارح إنّو نقرا الكتاب تحت الشجرة، على راس الجبل!"
حضّرت ميرا شنطتها، حطّت فيها سندويش للترويقة، وقنّينة مي، ووجبات خفيفة، وأخذت كتاب جديد بيحكي عن مغامرات بالضيعة. والبابا كمان حضّر غراضه وأخد كتاب ليقراه. وهيك كل حدا منن حمل شنطة، وراحو يتمشّو صوب الجبل حتى وصلو عالعالي لفوق.
وهونيك، نقّت ميرا شجرة أرز كبيرة كتير، قعدت تحتا، سندت ظهرا على جذعها، فتحت الكتاب وبلّشت تقرا.
هيي وعم تقرا، صارت تتنقوص عليها بذرة زغيرة كتير، من قلب كوز بالشّجرة. صارت البذرة تطلّ وتطّلع فوق وتحت ويمين وشمال، كان عندها الحشريّة لتعرف اكتر شو عم تقرا ميرا بكتابها. ميرا تتصفّح بالكتاب، والبذرة تتأمّل من بعيد الصور بقلبه: شافت سيارات، وولاد عم تلعب وتصرخ، الجيران عم يصبحو بعض:
"الله يعطيك العافية، جار!"
"الله يعافيك، ميّل اشراب فنجان قهوة."
غطّ عصفور على غصن الشجرة، وبلّش يزقزق و يغرّد. سكّرت ميرا الكتاب وعطت دينتها للعصفور، غمّضت عيونها ونامت.
عيّطت البذرة للعصفور:
"بسست، يا عصفور، تعا لعندي!"
فإجا العصفور لحدّها.
"صباح الخير يا عصفور الحلو!" قالتله البذرة
"صباح النور يا بذرة" ردّ العصفور
"ك عصفور، انت عندك جوانح وفيك تطير لوين ما بدك!"
"صح!"
"طب وين موجودين هالصور بكتاب هيدي البنت؟"
"بالضيعة"
"انت رايح عالضيعة من قبل؟"
"ايه دايماً. اصلاً بيتنا بالضيعة بجورة بسقف البيت. بحب شوف الولاد يلّي عم يلعبو هونيك، أوقات كتير بيكبّولي فتافيت خبز لآكل منن."
"يا ريت فيك تاخدني وتخلّيني طير فوق الضيعة، حتّى شوفها."
"يا ريت، بس أنا كتير مشغول،" قال لها العصفور، "بدّي جمّع أكل وآخدهن عند ولادي"
طار العصفور، وفاقت ميرا وفلّت هيّي وبيّها صوب الضّيعة. بقيت البذرة تراقبها وهنّي رايحين بعيد لحتى ما بقى قادرة تشوفهن.
وبعد فترة بلّشت الشمس تغيب والبذرة صارت تبكي.
سمعتها امها، الشجرة، هيي وعم تبكي، فسألتها الشجرة للبذرة ومستغربة:
"شو بكي عم تبكي يا بنتي؟"
فردّت:
"ما بدّي ضل هون كل الوقت، معلّقة على غصنك بقلب هالكوز. ما قادرة شوف إلا الاشيا يلي حواليي بس. بدي روح عالضيعة او الجبل اللي حدنا هونيك واستكشف شو فيه."
قالتلها إمّها: "بيوم ما، ح تكبري، و لما تكبري، ح يصير عندك جوانح."
"أنا؟!، بس أنا مش عصفور؟!"
"صح، بس ح يصير عندك جوانح لتروحي وين ما بدك، وهونيكي حتصيري شجرة متلي"
"وايمتى حصير كبيرة؟"
"مش هلّق، بس لما تكبري حتعرفي وحتبعدي وتستكشفي أكتر العالم اللي حواليكي"
بوقتها نامت البذرة وهيي عم تحلم بهيدا النهار العظيم اللي حتطير فيه.
مرقت ليالي، وتغيّرت الفصول، لحد ما بليلة، بنهاية فصل الخريف، هبّ الهوا، قوي كتير، فوعيت البذرة خايفانة.
"ماما! شو عم يصير؟"
"ما شي يا بنتي، هيدا الهوا"
"بس الهوا كتير قوي، ومش قادرة اتمسّك فيكي منيح"
"ما تخافي"
"شو يعني؟"
"انت اليوم حتطيري!"
"هلّق؟"
"اي!"
"هلّق حطير وح شوف العالم؟"
"اي"
تحمّست البذرة كتير وقع الكوز يلي هيي بقلبه، نطّت منه وفتحت جوانحها وخلّت الهوا يحملها، صار ياخدها يمين وشمال، يمين وشمال. طارت فوق الوادي والتلال وفوق الضيعة. شافت القرميد الأحمر عالبيوت الزغيرة، وناس حاملين شماسي، وباصات المدرسة، وشافت مزارع لاطي تحت الشّجرة، وولاد عم يلعبوا بالطابة.
طارت حد العصافير اللي كانوا يغطّوا حدّها عالشّجرة، شافت كلاب عم تعوّي وديك عم يصيح، وبسينة عم بتنوّي حتى الولاد يطعموها. شافت العالم كلّو يلّي كان بكتاب ميرا.
وفجأة، لقت حالها عم توقع. جرّبت تحرّك بجوانحها، حاولت تروح يمين أو شمال، بس ما قدرت. ضلّت نازلة حتى وقعت عمنخار العم توفيق، اللي عندو دكّانة بالحيّ. عطس العم توفيق وطارت البذرة ووقعت بشنطة. ميرا كانت برات المحل عنده، والشنطة شنطتها.
صحّة عمّو توفيق
شكراً يا ميرا
عطيتو ميرا المصاري وأخدت كياس الشيبس وطعمتن لرفقاتها. البذرة طلّت من قلب الشنطة، وشافت بيوت الضيعة. شكلن غير. من تحت مبينين أكبر، حيطانن من حجارة، وفيهم شبابيك وأبواب، وألوانن كتيرة، الأزرق والأخضر والبنّي.
تسابقت ميرا هيي ورفقاتها مين بيوصل أسرع عالبيت. البذرة حاولت تتمسّك منيح بالشنطة، لكن ميرا على عتبة مدخل البيت، نطّت فوقعت البذرة عالأرض. بسينة شافتها من بعيد، سمّرت عيونها بالبذرة، هزّت بطيزها، وفزّت عليها. وصارت تلعب فيها يمين وشمال بإيديها وتحرقصها متل الفوتبول. خافت كتير البذرة، بركي أكلتها البسة؟! فجأة، طلع صوت غريب (صوت نباح). هربت البسينة، وارتاحت البذرة، للحظات قبل ما يطل صاحب الصوت. كلب كبير أبيض، قلها:
شو عم تعملي هون؟
ردّت البذرة وخيفانة،
حتاكلني؟!
فاضحك الكلب وقال:
ما تخافي، ما باكل الا لحمة. انتي شو عم تعملي على جنب الطريق؟ مش المفروض تكوني عراس الجبل؟
قالتلو:
الهوا حملني لهون، وبدّي اكتشف الضيعة.
هلق وقت يضهر عمّو سميح من محلّه حتى يكنّس هالرصيف قباله. لازم تلحقي توصلي عراس الجبل.
بهالوقت، بيفتح عمو سميح الباب، وبيضهر معصّب:
وشت وشت...
بيشحط الكلب، بيجيب المكنسة وبيقرب ريشاتها صوب البذرة، بس الهوا بيجي وبيطيرها صوب الطريق. دولاب سيارة بيجي من بعيد، وكان حيخبصها لو ما الهوا حملها مرة تانية وقذفها للرصيف عالميلة التانية. وهيي عم تاخد شهيق زفير، بتسمع حدا عم يعيّطلها:
بذرة؟ هيدا انتي؟ ليش انتي هون؟ مش لازم تكوني عراس الجبل؟
شو بكن كلكن عم تقولولي نفس الشي؟ ليش لازم كون بالجبل؟
هلق حتشتي الدني ويمكن تتلج. هيدي فرصتك تصيري شجرة كبيرة متل إمّك. بدّك احملك لفوق؟
وافقت البذرة، وحملها العصفور بمنقاره وطار فيها بالعالي. اشتدّ الهوى، وبلّشت الدني تنقّط شتا خفيف. حاول العصفور يبقى طاير جالس، بس الهوى كان أقوى وفلتت منّه البذرة وحملها الهوا لبعيد.
صار ياخدها يمين وشمال. جرّبت البذرة تحرّك جوانحها تتطير بعكس الهوا صوب إمها، بس ما قدرت.
ضلّ حاملها الهوى وكبها على طرف الجبل.
بردت الدني وبلشت تشتّي بغزارة، وغرقت هالبذرة بميّة الشتي.
وبعد كم ساعة، تحسّن الطقس شوي وزاحت الغيوم، فقدرت تشوف النجوم الي بالسما، صارت تتأملها وتبكي، وبقيت عم تبكي لحتى نامت.
والصبح، تاني يوم، وعيت وبعدا بردانة كتير. بتطّلع فوقها وبتشوف التلج الأبيض عم ينزل من السّما والعصفور صاحبها طاير فبتعيطلو: "يا عصفور! يا عصفور!" بينزل العصفور ت يحكي مع البذرة.
"مرحبا بذرة!"
بترد عليه: "فيك ترجع تحملني عند الماما؟"
"لا، ما فيي احملك، في كتير ثلج"
"بس أنا خايفانة!"
"بعتذر منّك بس ما فيي ساعدك، بدي روح عند ولادي." وطار العصفور.
بلّشت البذرة تطّلع حواليا، وكان الثلج عم بيزيد ويزيد حتى طمها وما بقى قادرة تشوف السما. حاولت تتحرك يمين وشمال حتى تطلع فوق التلج، بس كل محاولاتها ما ظبطت. فرجعت تبكي مرّة تانية، وضلّت تبكي وتبكي حتى نامت.
مرقت أشهر كتيرة، واجا فصل الربيع. الشمس صارت قوية وساعدت التلج يدوب. فاقت البذرة. الطقس كان كتير حلو ودافي، وقدرت تشوف السما صافية، فحسّت شوي بالتفاؤل. جرّبت تتحرّك بركي بتقدر ترجع عند امها، بس حسّت في شي كامشها. لقت صار عندها اجرين وعلقانين بالأرض. فخافت وصارت تصرخ وتعيّط. بيسمعها العصفور، وبيطير لعندها:
"مرحبا يا بذرة! ليش عم تبكي؟"
"ساعدني يا عصفور!" ردّت عليه وكمّلت بكي.
رد عليها:
"جبتلّك معي رسالة اليوم"
"مين بعتلي رسالة؟"
"امك، الشجرة. بتقلّك ما تخافي، انتي هلق عم تكبري، واجريكي هول جذورك بالأرض، بيجيبولك أكل وبيثبتوكي بالجبل حتى ما توقعي. وبعد سنين ح تكبري وتصيري شجرة متلا. حتصيري طويلة وتشوفي الوادي والجبل مقابيلك."
بعد ما فلّ العصفور بقيت البذرة عم تبكي، زعلانة. ما بدّا تصير شجرة، بدّا ترجع بذرة عند إمها.
مرقت أيام وأشهر، وصارت البذرة شتلة وكبرت شوي شوي. صارت تعلى، وقادرة تشوف أكتر شو فيه حواليها. بطّلت تبكي، وصارت تحلم تصير شجرة عظيمة متل امها.
مرقت سنين اكتر، وصارت شجرة كبيرة. و بيوم من الايام، هبّت نسمة هوا زغيرة من الجهّة التانية من الجبل، ومرقت بين وراقها حاملة ريحة حلوة ريحة الأرز، ريحة امّا. الهوا كان معه رسالة:
يا بنتي أنا اشتقتلك. وكل ما يجي الهوا رح ابعتلك معه سلامي وبوساتي. كوني قويّة، وتذكّري إنّو بيوم من الأيام حتجي بنت زغيرة متل ميرا تقعد تحتك، تتخبّى من الشمس، وتقرا كتابها. وحتصيري إم متلي وتخبري البذور ولادك كيف حيكبرو ويطيرو ويكتشفو العالم وحدن متل ما انتي عملتي.
اطّلعت الشجرة صوب الجبل التاني، مطرح ما امها قاعدة. ابتسمت وصارت هيي وياها يميلو ويرقصو سوا مع الهوا.